Loading...
Back
المشي كوسيلة للشفاء النفسي: كيف يؤثر المشي على جودة النفسية؟
34
المشي كوسيلة للشفاء النفسي: كيف يؤثر المشي على جودة النفسية؟ 24 Sep, 2025
Super Admin

المشي كوسيلة للشفاء النفسي: كيف يؤثر المشي على جودة النفسية؟

المقدمة كم مرة كنت غاضبًا أو حزينًا من شيء ما، فقررت أن تخرج تتمشّى قليلًا، ثم عدت وأدركت أن مشاعرك أصبحت أهدأ وأن غضبك أو حزنك خفّ؟ غالبًا ما نسمع الأطباء ينصحون بالمشي لأنه يساعد على التخلص من الدهون، ويحافظ على رشاقة الجسم، وينشّط الدورة الدموية. لكن مع الوقت نكتشف أن المشي لا يفيد الجسد فقط، بل يساعدنا أيضًا على التخلص من الهموم والتفكير السلبي. والسؤال هنا: ما السر وراء هذه القوة البسيطة للمشي؟ ماذا يفعل المشي في الدماغ؟ حين نتحرّك في خطواتٍ بسيطة متتابعة، يحدث في دماغنا ما هو أبعد من مجرّد تحريك العضلات. المشي يزيد من تدفّق الدم المحمَّل بالأكسجين نحو المخ، وكأنّ كل خطوة بمثابة جرعة صغيرة من الحيوية تصل إلى الخلايا العصبية. هذا التدفق يحفّز مناطق أساسية مسؤولة عن الذاكرة، وعن تنظيم المشاعر، وعن القدرة على التخيل والإبداع. ويشير Shane O’Mara في كتابه In Praise of Walking إلى أنّ المشي يُنشّط شبكة دقيقة داخل الدماغ تُسمّى بـ “وضعية الراحة” أو Default Mode Network، وهي حالة ذهنية مميزة يبدأ فيها العقل بالتنقّل الحر بين الماضي والمستقبل، فيراجع أحداثًا قديمة، ويتخيّل سيناريوهات جديدة، ويعيد ترتيب أفكاره العالقة. قد يبدو المشي فعلًا آليًا، لكنّه في الحقيقة يفتح الباب أمام واحدة من أعقد عمليات التفكير التي يقوم بها الإنسان: صياغة قصته الداخلية وفهم موقعه في العالم. لنتخيّل المشهد: أنت تسير بخطوات متكررة على رصيفٍ هادئ، أصوات الشارع من حولك تتناغم مع إيقاع قدميك. شيئًا فشيئًا، يبدأ ذهنك في التقاط خيوط أفكار متفرّقة، ثم ينسجها في صورة أوضح. فكرةٌ كانت ضبابية تتحول إلى قرار، ذكرى موجعة تصبح أقل ثِقلاً، ومشاعر متشابكة تبدأ في الانفصال عن بعضها. كأن المشي يمارس عملية “تنظيف داخلي” للعقل؛ يُزاحم الضجيج بالأكسجين، ويُصفّي ازدحام الأفكار بخطواتٍ منتظمة. إن المشي، بهذا المعنى، ليس مجرّد رياضة خفيفة، بل هو وسيلة عصبية عميقة تساعدنا على ترتيب ذاكرتنا، تنظيم مشاعرنا، وإيجاد روابط جديدة بين أفكارنا. كل خطوة لا تحرّك الجسد فقط، بل تُعيد تشكيل طريقة تفكيرنا أيضًا. المشي والمزاج: كيف يهدّئنا ويُخفّف القلق؟ قد يبدو القلق كصوتٍ داخلي لا يتوقّف عن الثرثرة، يلهث وراء كل فكرة صغيرة ويحوّلها إلى همٍّ كبير. لكنّ المشي يملك قدرة عجيبة على تهدئة هذا الضجيج. حين نتحرك بخطواتٍ منتظمة، يدخل الجسم في إيقاع ثابت يشبه أنغامًا بسيطة تعزفها القدم على الأرض، فيتجاوب معها الجهاز العصبي بإبطاء ضربات القلب وتنظيم التنفس، وكأن الجسد كلّه يتنفّس الصعداء. يشير Shane O’Mara إلى أنّ المشي ليس مجرد نشاط بدني يستهلك الطاقة، بل هو في جوهره وسيلة لاستعادة التوازن النفسي. فمع كل خطوة، يفرز الدماغ مواد كيميائية طبيعية تُسمّى “الإندورفينات”، وهي أشبه بمهدئات يخلقها الجسد بنفسه. هذه المواد ترفع المزاج، وتُقلّل من حدة التوتر، وتمنحنا شعورًا بالخفة وكأنّ حملًا ثقيلاً قد أُزيح عن صدورنا. تخيّل أنك خرجت بعد يوم طويل مليء بالضغوط، وأنت تشعر بأن رأسك مزدحم بمئات الأفكار. تبدأ بالمشي في شارعٍ هادئ أو على ممشى قصير بجوار بيتك. في الدقائق الأولى، ما زالت الأفكار تتدافع داخلك بلا نظام. لكن شيئًا فشيئًا، ومع انتظام الخطوات، يتباطأ اندفاعها، كأنها تصطف في طابور منتظم بدلاً من فوضى متشابكة. تشعر أن عقلك صار أكثر سكينة، وأن الهواء الذي يملأ رئتيك يخفّف من ثِقل صدرك. الجميل أن تأثير المشي على المزاج لا يحتاج جهدًا خارقًا أو وقتًا طويلًا. أحيانًا يكفي عشر دقائق من السير الهادئ حتى تلمس الفرق: الأفكار الأكثر إزعاجًا تهدأ، المشاعر المنقبضة تسترخي، والنظرة للعالم تصبح أقل قتامة. إنّه أشبه بجرعة دواء فوري، لكن بلا وصفة طبية وبلا آثار جانبية. لهذا يُمكن القول إن المشي ليس مجرد وسيلة للهروب من القلق، بل طريقة للتعامل معه بلطف: لا يقمعه ولا يتجاهله، بل يذوّبه ببطء في حركة الجسد، حتى يتلاشى تدريجيًا مع وقع الأقدام. المشي والإبداع: كيف تفتح الخطوات أبواب الأفكار؟ الإبداع في أحيان كثيرة يشبه نافذة مغلقة من الداخل؛ نُحدّق فيها طويلًا فلا تُفتح، مهما ضغطنا على المقبض. لكن حين نبدأ بالمشي، يحدث شيء غامض: الهواء يتحرك، والأفكار تبدأ في الانسياب. لقد أثبتت دراسات كثيرة، ومنها أبحاث بجامعة ستانفورد، أنّ المشي يزيد من تدفّق الأفكار الجديدة، ويُضاعف القدرة على الربط بين معانٍ بعيدة لم نكن نراها من قبل. يُشير Shane O’Mara في كتابه In Praise of Walking إلى أنّ الخطوات البسيطة ليست حركةً جسدية فقط، بل مفتاحًا يفتح مسارات جديدة داخل الدماغ. فمع كل خطوة، يتنشّط الخيال وتتحرر القدرة على حل المشكلات. المشي، إذن، ليس هروبًا من التفكير، بل دخولٌ إلى مستوى أعمق منه. تخيّل نفسك جالسًا أمام مكتبك، تحاول منذ ساعات العثور على فكرة لمقالٍ أو حلاً لعُقدةٍ في عملك. العيون متعبة، والأفكار تدور في دائرة مغلقة. لكن بمجرد أن تنهض وتخرج لتتمشّى، يبدأ المشهد في التغير: خطواتك تسحب انتباهك بعيدًا عن الورق والكمبيوتر، وتوجّه عقلك نحو الداخل. تلتقط صورة من مشهد في الطريق، أو جملة عابرة من شخص يمر بجوارك، فتُصبح شرارةً لفكرة جديدة. وعندما تعود، تكتشف أنّ ما استعصى عليك طويلاً قد انحلّ بسهولة. إنّ المشي يمنحنا نوعًا من التفكير الحرّ، تفكير بلا جدران، بلا قيود. هو مساحة يتداخل فيها الواقع مع الخيال، فيلتقي المنطقي بالحالم، ليُولَد من هذا اللقاء حلٌّ مبتكر أو رؤية جديدة. ولهذا، لم يكن غريبًا أن أعظم الكُتّاب والفلاسفة اعتادوا المشي بانتظام. فخطواتهم لم تكن مجرد انتقال من مكانٍ إلى آخر، بل كانت ورشةً متنقلة لصناعة الأفكار. المشي كطقسٍ للتعافي النفسي. التعافي النفسي لا يحدث دفعة واحدة، بل هو عملية بطيئة، متدرجة، تحتاج إلى مساحات هادئة يُسمح فيها للعقل والقلب أن يعيدا ترتيب أنفسهما. والمشي هنا ليس مجرد حركةٍ آلية، بل يمكن أن يتحوّل إلى طقسٍ شبيه بجلسة علاج، لكن في الهواء الطلق. يُشير Shane O’Mara في كتابه In Praise of Walking إلى أن المشي يُحفّز في الدماغ ما يُسمّى بـ “السفر الذهني”؛ حيث نتمكّن أثناء خطواتنا من التنقل بين لحظات الماضي واستشراف المستقبل. هذا التنقّل يساعدنا على إعادة صياغة قصتنا الداخلية، وفهم تجاربنا الصعبة بشكلٍ مختلف. بمعنى آخر، المشي يمنحنا فرصة لإعادة كتابة الحكاية التي نحملها عن أنفسنا، لا كضحايا للظروف، بل كأشخاص قادرين على النهوض من جديد. تصوّر أنك خرجت في نزهة قصيرة بعد يوم ثقيل، تحمل داخلك ذكرى موجعة أو فكرة مثقلة باللوم. في البداية، تظلّ هذه الفكرة حاضرة بقوة، تضغط على قلبك كحجر. لكن مع تتابع الخطوات، ومع تناغم النفس مع الحركة، يبدأ هذا الثِقل في الذوبان ببطء. قد لا يختفي تمامًا، لكنه يصبح أخف، أكثر قابلية لأن يُحمل. وكأن المشي يعطيك المسافة الآمنة لمراجعة ما يؤلمك دون أن يبتلعك. المشي أيضًا يخلق مسافة مادية بينك وبين المكان الذي ولّد التوتر أو الذكرى المؤلمة. هذه المسافة الجسدية تتحوّل مع الوقت إلى مسافة نفسية، وكأنك تقولين لنفسك: “أنا لست محصورة داخل هذه اللحظة، لديّ طريقٌ آخر أمشيه.” وهنا يبدأ التعافي: في تلك الخطوات الصغيرة التي تُذكّرك أن الحركة ممكنة حتى في أصعب الأوقات. ولهذا، يمكن أن يكون المشي طقسًا يوميًا للتداوي. عشرون دقيقة من السير الهادئ قد لا تمحو الألم، لكنها تمنحه شكلاً جديدًا يمكن احتماله، وتفتح نافذة صغيرة يدخل منها هواء التعافي. قوة المشي الاجتماعي. المشي ليس تجربة فردية فقط، بل يمكن أن يكون جسرًا يُعيد وصلنا بالآخرين. فعندما نسير مع شخصٍ مقرّب، يتغيّر شكل الحوار ويتحرّر بطريقة لا تحدث عادةً في الجلوس وجهًا لوجه. نحن لا ننظر مباشرة إلى عيون بعضنا، بل نمضي كتفًا بكتف، نتشارك الطريق والهواء، فيخفّ التوتر، ويصبح الحديث أكثر انسيابًا. يُشير Shane O’Mara في In Praise of Walking إلى أن المشي يحمل بعدًا اجتماعيًا عميقًا؛ فهو يقرّب المسافات بين الناس، ويجعلهم أكثر استعدادًا للإنصات والانفتاح. السير المشترك يخلق نوعًا من التناغم الخفي: إيقاع الخطوات يتوحد، التنفس يتقارب، والحديث يتدفّق بلا تكلف. كأننا نقول للآخر، من خلال أجسادنا قبل كلماتنا: “أنا معك في الطريق.” تخيّل لقاءً عاديًا مع صديق قديم. لو جلستما في مقهى، قد تشعر بعض الكلمات بالثقل أو التكلف، لكن لو اخترتما المشي معًا في شارعٍ هادئ أو حديقة، ستجد أن الصمت نفسه يصبح مريحًا، وأن الكلام حين يأتي يكون أصدق وأكثر عمقًا. المشي يذيب الحواجز، ويحوّل اللقاء إلى رحلة صغيرة نشاركها خطوة بخطوة. حتى في أصعب اللحظات، حين يمرّ شخص ما بحزن أو ضيق، قد لا يعرف كيف يعبّر بالكلمات. لكن دعوته إلى المشي قد تفتح له نافذة للتنفيس: لا يحتاج أن يواجهك مباشرة، يكفي أن يترك كلماته تتساقط في الطريق كما تتساقط خطواته. وفي هذا المشهد، يصبح الطريق نفسه شاهدًا على المشاركة والدعم. لهذا، يمكن للمشي أن يكون وصفة اجتماعية أيضًا، وليس نفسية فحسب. أن تمشي مع أحدٍ تحبه هو تذكير بأنك لست وحدك، وأن الرفقة لا تحتاج دائمًا إلى كلامٍ كثير، بل أحيانًا يكفي أن تكونوا معًا في نفس الخطوات. المشي بين الطبيعة والمدينة: أيهما أجمل؟ كثيرون يظنّون أن فائدة المشي لا تكتمل إلا في أحضان الطبيعة: بين الأشجار، أو بجوار البحر، أو في طريقٍ ريفيّ هادئ. لا شك أن الطبيعة تمنح المشي بُعدًا إضافيًا من الصفاء، فهي تُحيطنا بألوانٍ وأصوات وروائح تخفّف التوتر وتعيدنا إلى إيقاعٍ أكثر انسجامًا مع الحياة. لكن الحقيقة، كما يؤكّد Shane O’Mara، أنّ المشي مفيد في أي مكان؛ سواء على الرصيف المزدحم أو في ممرات ضيّقة داخل المدينة. الفارق أن الطبيعة تمنحنا هدوءًا حسّيًا يساعدنا على الاستغراق أكثر في التجربة: تغريد الطيور، حركة الهواء، أو حتى ملمس العشب تحت أقدامنا. هذه التفاصيل الصغيرة تُغذّي حواسنا وتشعرنا بالانتماء إلى العالم. لكن في المدينة أيضًا، هناك جمال خفي لا ننتبه له إلا إذا سمحنا لأنفسنا بالتماشي معه: إيقاع الأقدام حولنا، نغمات أصوات الناس، أو تفاصيل المباني التي لا نلاحظها حين نمرّ مسرعين. تخيّل أنك تمشي في شارعٍ مزدحم، قد يبدو في البداية مليئًا بالضوضاء والفوضى. لكن إذا قررت أن تُبطئ خطواتك قليلًا، وأن تراقب التفاصيل، ستكتشف أن الضوضاء تتحوّل إلى إيقاع، وأن كل مشهد صغير يمكن أن يكون مادة للتأمل: واجهة محل قديمة، ضحكة عابرة من طفل، أو ظلّ شجرة يمدّ يدًا من الرصيف إلى الطريق. المدينة نفسها تصبح كتابًا مفتوحًا نقرأه مع كل خطوة. إذن، لا تجعل غياب الطبيعة عذرًا لحرمان نفسك من المشي. نعم، الطبيعة تمنح صفاءً أعمق، لكن المدينة أيضًا تحمل هداياها الخاصة. الأهم أن نتحرّك، أن نترك خطواتنا تفتح لنا بابًا جديدًا، سواء كان هذا الباب يقودنا إلى غابةٍ خضراء أو إلى زقاقٍ ضيّق. فالقيمة ليست في المكان وحده، بل في الفعل ذاته: فعل السير، وفعل الإصغاء لما يهمس به الطريق. بروتوكول عملي: “وصفة المشي العلاجي” المشي قد يبدو بسيطًا لدرجة أننا نغفل عن قوته، لكن تحويله إلى عادة منتظمة يحتاج بعض التوجيه حتى يصبح جزءًا من روتيننا اليومي. وهنا يمكن أن نتعامل معه كـ “وصفة علاجية” لها جرعة ووقت وطريقة. أولاً، المدة والإيقاع: يكفي أن يبدأ المرء بعشر دقائق يوميًا، أربع إلى خمس مرات في الأسبوع. ومع الوقت يمكن أن تمتد المدة إلى نصف ساعة أو أكثر. ليس المهم السرعة أو المسافة، بل الانتظام والإيقاع الهادئ الذي يسمح للجسد أن يتنفس والعقل أن يسترخي. ثانيًا، الانتباه والتنفس: في الدقائق الأولى، حاول أن تُبطئ قليلاً وأن تركز على تنفسك؛ خذ شهيقًا عميقًا يعدل أربع عدّات، ثم أطلق زفيرًا أطول يعدل ست عدّات. هذا التمرين البسيط يضع جسدك في حالة استرخاء، ويُمهّد الطريق لعقلك كي يهدأ. بعد ذلك، اترك أفكارك تتحرك بحرية، ولا تحاول السيطرة عليها؛ فالمشي ليس جلسة انضباط صارمة، بل مساحة للانطلاق. ثالثًا، تمارين ذهنية أثناء المشي: جولة تفريغ الضغط: لاحظ خمسة أشياء تراها، أربعة أصوات تسمعها، ثلاث لمسات تشعر بها، رائحتين تلتقطهما، وطعمًا واحدًا في فمك. هذه التقنية تُسمّى “التأريض”، وهي تساعد على إعادة الحضور إلى اللحظة الحالية. جولة الفكرة الواحدة: قبل أن تخرج، اختر فكرة أو سؤالًا واحدًا يشغلك. أثناء المشي، دع الفكرة تسبح دون محاولة إجبار نفسك على حلها. ستتفاجأ كيف يعود الحل تلقائيًا بعد العودة. رابعًا، المشي العاطفي للتعافي: إذا كنت تحمل ذكرى موجعة أو شعورًا ثقيلاً، خصص جولة قصيرة تراجع فيها هذا الشعور وأنت تتحرك. لا تغرق فيه، بل اجعله يمرّ بجانبك كما يمرّ الطريق تحت قدميك. هذا التباعد البسيط يمنحك مساحة للتعامل مع الألم دون أن يبتلعك. إن المشي بهذا الشكل يتحول من مجرد عادة صحية إلى جلسة علاجية متكاملة، لا تحتاج فيها إلى أدوات خاصة ولا أماكن محددة. كل ما تحتاجه هو أن تمنح قدميك الإذن بالحركة، وأن تسمح لعقلك أن يتبعها في رحلته. كيف نقيس التقدّم مع المشي؟ قد يتساءل البعض: “كيف أعرف أن المشي أحدث فرقًا في حالتي النفسية؟” فالتحسن النفسي أحيانًا يكون خفيًّا، يتسلل ببطء، ولا ننتبه إليه إلا بعد فترة. لكن هناك طرق بسيطة تجعلنا نرى أثر الخطوات على حياتنا بوضوح. أولاً، مقياس المزاج اليومي: قبل أن تبدأ المشي، اسأل نفسك: “كيف أشعر الآن من 0 إلى 10؟” (حيث 0 يعني إرهاق أو ضيق شديد، و10 يعني هدوء وراحة). كرّر السؤال لنفسك بعد الانتهاء من المشي. قد تُفاجأ أن الفرق ولو بدرجة واحدة يُشير إلى تقدّم حقيقي. ثانيًا، دفتر الخطوات والأفكار: خصص كراسة صغيرة أو ملاحظة في هاتفك، اكتب فيها ثلاثة أسطر بعد كل جولة: متى مشيت، كم دقيقة، وما أبرز فكرة أو شعور خرج معك من الجولة. مع مرور الوقت، ستلاحظ أن أفكارك تصير أوضح، وأن مشاعرك السلبية تفقد حدّتها. ثالثًا، علامات النجاح الصغيرة: إذا لاحظت أن سرعة أفكارك المقلقة بدأت تبطؤ. إذا صرت أكثر قدرة على اتخاذ القرارات بعد المشي. إذا أصبحت تتطلع للجولة التالية بدل أن تراها عبئًا. رابعًا، الاستمرارية أهم من الكمال: لا تقِس نجاحك بعدد الكيلومترات أو سرعة الخطوات، بل بمدى التزامك بجعل المشي عادة. حتى خمس دقائق في يوم مزدحم تُعتبر خطوة انتصار، لأنها تحافظ على الخيط الرفيع الذي يربطك بنفسك. بهذه الطريقة، يصبح المشي رحلة واضحة المعالم: ترى كيف يتبدل مزاجك، وكيف تتفتح أفكارك، وكيف يتغير شعورك تجاه نفسك والعالم من حولك. حين تصبح الخطوات دواءً في النهاية، المشي ليس مجرد وسيلة لقطع مسافة، بل هو طريقة للحياة. إنّه أبسط فعل يمكن أن نمنحه لأنفسنا، لكنه يحمل في طياته أثرًا أعمق مما نتخيل: ينعش الدماغ، يهدئ القلق، يفتح أبواب الإبداع، ويعيد إلينا قدرتنا على رواية قصتنا بسلام. ما يميز المشي أنّه لا يطلب منّا شيئًا معقدًا: لا أدوات خاصة، ولا اشتراكات باهظة، ولا استعداد طويل. كل ما يحتاجه أن نسمح لأنفسنا بالتحرّك، أن نضع قدمًا أمام الأخرى، ونترك الطريق يصنع بنا ما يشاء. ربما لا يحل المشي كل مشكلاتنا، لكنه يمنحنا القدرة على مواجهتها بعقلٍ أوضح وقلبٍ أهدأ. وكأنّ الخطوات الصغيرة تقول لنا: “لست مضطرًا أن تصل بسرعة، المهم أن تستمر.” فلتجعل من المشي طقسًا يوميًا، لا بوصفه تمرينًا للجسد فقط، بل دواءً للنفس، وصوتًا خافتًا يذكّرك في زحمة الأيام أن الشفاء يمكن أن يبدأ من أبسط الأشياء: من خطوة واحدة.